بحـث
المواضيع الأخيرة
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 17 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 17 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 312 بتاريخ الإثنين مارس 13, 2023 10:44 am
رسالة الغفران: بحث في أهمّ المسائل
صفحة 1 من اصل 1
رسالة الغفران: بحث في أهمّ المسائل
رسالة الغفران: بحث في أهمّ المسائل
مدخل:
حظي النصّ الغفراني بالدّراسة و التمحيص من قبل العديد من الباحثين مشرقا و مغربا و كلّ يدلي بدلوه، فاختلفت الآراء بخصوص هذا الأثر بين منكِر مستقبِحٍ و بين معجب مادح، كما اختلفت الآراء حول مؤلّف النصّ إن كان زنديقا مارقا أم إنّه مؤمن ساءته غرابة هذا الدين بين أهله فانبرى للدّفاع عنه، و لسنا نسعى في هذا العمل إلى استعراض مختلف هذه الآراء و إنّما حسبنا البحث في بعض القضايا المركزيّة التي نقدّر أنّ رهين المحبسين قد قصد إليها و بعض آليّات كتابة هذا النصّ و مكوّناته.
I الخيال و تجلّياته:
إنّ أوّل ما يجب التوقّف عنده و نحن ندرس رسالة الغفران ضمن الأدب أو علم الأدب هو ضرورة التدقيق في استعمال المصطلحات الأدبيّة تدقيقا يستوجبه العلم و يمنع عنّا الإستعمالات الخاطئة لها و من هذا المنطلق ارتأينا ضرورة التوقّف عند مصطلح خيال و ما يدور في فلكه من مصطلحات تشترك في نفس الجذر الثلاثي (خ،ي،ل) و لا تشترك في المعنى و هذه بعض التعريفات الأوّليّة لهذه المصطلحات:
يعرّف جابر عصفور هذا المصطلح'خيال' بقوله «يشير استخدامنا اللغوي المعاصر لكلمة (الخيال) إلى القدرة على تكوين صور ذهنيّة لأشياء غابت عن متناول الحسّ. و لا تنحصر فاعليّة هذه القدرة في مجرّد الإستعادة الآليّة لمدركات حسيّة ترتبط بزمان أو مكان بعينه، بل تمتدّ فاعليّتها إلى ما هو أبعد و أرحب من ذلك، فتعيد تشكيل المدركات، و تبني منها عالما متميّزا في جدّته و تركيبه، و تجمع بين الأشياء المتنافرة و العناصر المتباعدة في علاقات فريدة، تذيب التنافر و التّبـاعد، و تخلق الإنسجام و الوحدة. و من هذه الزاوية يظهر جانب القيمة الذي يصاحب كلمة 'الخيال' في المصطلح النقديّ المعاصر، و الـذي يتجلّي في القدرة على إيجـاد التنـاغم و التّوافق بين العناصر المتباعدة و المتنافرة داخل التجربة»[1].
أمّا مؤلّفا كتاب أدبيّة الرّحلة في رسالة الغفران فإنّهما يذهبان إلى أنّ «الخيال هو المعادل العربيّ لكلمة (image) الفرنسيّة... لذلك يطلق لفظ الخيال أخيرا على الصّورة الرّمزيّة (allégorie) التي تجسّم المعنى المجرّد تجسيما حسيّا واضحا كأن نصوّر عنف الموت بحاصدة الزّرع.. و التيه الرّوحيّ بسفينة في مهبّ العاصفة... و هنا تُستخدم المخيِّلة التشبيه و المجاز و الأسطورة و الرّمز»[2].
و يعرّفه جميل صليبا بقوله«الخيال الشّخص، و الطيف، و صورة تمثال الشيء في المرآة، و ما تشبّه لك في اليقظة و المنام من صور. و الخيال أيضا الظنّ و التوهّم و هو يدلّ في اصطلاحنا على الصّورة الباقية في النّفس بعد غيبة المحسوس عنها...»[3].
الحاصل من مختلف هذه التعريفات أنّ الخيال يمثّل صورة ترتسم في الذّهن لشيء حسّي غاب عن أنظارنا و حواسّنا فاستعدناه بالعقل أمّا التخيّل فهو «ملكة مصوّرة»[4]. فهو بمثابة الآلة المنتجة للخيال.
والقارئ للنصّ الغفراني يجد التخيّل قد طبع أغلب العناصر المكوّنة للنصّ فأخرجها في ثوب خيالي يخال معه أن الحدود بين الواقع و الخيال قد دكّت إلى غير رجعة و أنّ النصّ قطيعة معه مقصودة أرادها أبو العلاء و لهذا الرّأي ما يدعمه في النصّ بجميع مكوّناته و مستوياته:
1) الخيال و الأحداث:
طبع الخيال أغلب أحداث رسالة الغفران و الشواهد الدّالة على ذلك متعدّدة كرفّ الإوز الذي انقلب مجموعة من الجواري«و يمرّ رفٌّ من إوزّ الجنّة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الرّوضة و يقف وقوف منتظر لأمرٍ... فينتفضن، فيصرن جواريَ كواعبَ يرفلن في وشْيِ الجنّة، و بأيديهنّ المزاهر، و أنواع ما يلتمس به الملاهي»[5]. أو كمثل الجواري المكنونات في الثمار«فيأخذ سفرجلَةً أو رمّانة أو تفّاحة أو ما شاء الله من الثمار فيكسرها، فتخرج منها جاريةٌ حوْراءُ عيناءُ تبْرَقُ لحسنها حوريّات الجنان...»[6].فالناظر لمختلف هذه المقاطع الحدثيّة يلاحظ أن الأحداث فيها لم تتبع نظاما منطقيّا و إنّما كان التخيّل أساسيّا في تشكيل الأحداث تتابعا و تداعيا..
2) الخيال و الزّمان:
يمثّل الزمن عنصرا ضروريّا في النّصوص السرديّة بمختلف مرجعيّاتها «فالزّمن في الأحداث هو نظامها و نسق تواردها»[7].و يضيف أحمد الغرسلّي قائلا:«انتظمت الأحداث في سياقين مختلفين: سياق غيبيّ تجلَّى أسلوبيّا في أفعال وردت في المضارع صيغةً و تمحّضت دلالة للتعبير عن الزّمن المطلق... أمّا السّياق الثاني.. فهو السّياق الدّنيويّ هذا السّياق يندرج في مدار الإسترجاع الزّمني و ينفتح على أزمنة تاريخيّة»[8] و الزّمن في الرّسالة ضارب في التعتيم و الغموض ممّا منحه خاصّيته الخياليّة فهو زمن لاحق في أغلبه (الحشر، الجنّةّ، الجحيم) جامع في مستوي الشخصيّات السابق باللاحق كابن القارح(ق5هـ) بعنترة العبسي مثلا أو الشنفرى أو امرئ القيس (شخصيّات جاهليّة)..
3) الخيال و المكان:
ليس أمر المكان في رسالة الغفران بمختلف عن الزّمان أو الأحداث أو الشخصيّات -كما سنرى- فهو مكان مفارق للواقع و إن كانت له سندات و منطلقات مختلفة عقائديّة أو أدبيّة أو شعبيّة،و إذا كان الإستشراف عاملا من العوامل التي شكّلت حدود المكان فإنّ التخيّل هو الذي أسند له صورة خياليّة فجعل المكان بلا ضوابط حسّية و إنما تحدّده مجموعة من الثنائيّات كالأسفل و الأعلى أو الواسع و الضيّق أو المسوّر و المتمادي...
4) الخيال و الشّخصيّات:
إنّ سياسة التعويض تمثّل أسّا من الأسس التي ولدّت صورا خياليّة لمختلف الشّخصيّات في الرّسالة فأعاد الراوي تشكيلها و أخرجها من الصورة الواقعيّة التي انطبعت في الأذهان عنها إلى صورة مجازيّة رسمهـا بالتخيّل، متصوّرا مآلهـا في الـدار الباقية أو في الجحيم و يمكن أن نضرب مثـلا توفيق السّوداء و حمدونة يقول عنهما المعرّي:«أتدري من أنا يا عليّ بن منصور؟ فيقول : أنت من حور الجنان اللواتي خلقكن الله جزاء للمتّقين، و قال فيكنّ ﴿كأنّهنّ الياقوت و المرجان﴾ فتقول: أنا كذلك بإنعام العليّ العظيم على أنّي كنت في الدّار العاجلة أُعرف بحمدونة و أسكن في باب العراق بحلبَ و أبي صاحب رحًى، و تزوّجني رجل يبيع السّقَطَ فطلّقني لرائحة كرهها في فيَّ و كنت من أقبح نساءِ حَلَبَ، فلمَّا عرفتُ ذلك زهدت في الدّار الغرَّارة و توفَّرتُ على العِبادة، و أكلت من مغزلي و مردني فصيّرني ذلك إلى ما ترى»[9]. و ليس التعويض وحده هو الذي ألبس صورة الشّخصيّات حلّتها الخياليّة و انّما عمد المعرّي إلى نوادر الأبيات يتّخذ منها قاعدة للتخيّل كصورة صخر (جبل تشتعل النّار في رأسه).
و الحاصل من كلّ هذا أن التّخيّل كان عنصرا رئيسيّا في منح الأشياء و الأشخاص هيئات خياليّة خرجت بهم من حدود الواقع إلى باب الغريب و الخيال و العجيب.
II الإضحاك و السّخرية في النصّ الغفراني:
ليس من أحد ينكر على الأدب العربيّ القديم في شقّه النثريّ اشتمـاله على المضـاحيك و النّـوادر و النكت و بعابرة أشمل على الهزل بصفّة عامّة، و إذا ألقينا نظرة على مختلف هذا الأدب الهازل وجدنا قسما هاما منه مندرجا ضمن الأدب الجاد، كـأن لا تعارض بينهما فالمعنى و الفكرة تطرق بالجدّ كما تصاغ بالهزل، و إذا كانت رسالة الغفران في جوهرها متضمّنة لمسـائل تمسّ بالمعتقد و بقضايا الشّعر و المجتمع -و هي مسائل جدّ حسّاسة- فإنّ طريقة الطّرح قد لحقها الهزل، و هو هزل خصّ به المعرّي شخصيّة ابن القارح في مختلف أبعادها و مختلف تجلّياتها في النصّ.
1) الإضحاك بالهيأة و المشهد:
صوِّر المحشر في الرّسالة و كأنّه سوق غاصّة بالناس المتدافعين الرّاغبين في الخلاص من هذا الموقف بشتى الوسائل و الطرق، كما نجد ابن القارح و قد استغلّ الجارية التي وُهِبتْ له فإذا به يحمل فوق ظهرها زقّفونة فإذا ما تمّ له العبور فوق الصراط و قد استوثق من دخول الجنان كانت مفاجأة ضياع صكّ التوبة التي كادت تفقده صوابه لولا جذبة إبراهيم. أمّا في الجنّة فإنّ المجالس فيها خمريّة ينتهي بعضها بتراشق بالكؤوس، و إلى غير ذلك من المشاهد.
2) الإضحاك بالقول:
عمد المعرّي في الرّسالة إلى استعمال بعض الألفاظ الغريبة قصد اثارة العجب و الإضحاك و إذا تتبّعنا النصّ نجد حضورا لألفاظ عدّة ابتدعها المعريّ و لا حضور لها في القواميس كقوله مثلا 'جحجلول، زقفونة، الخيثعور، الشّيصبان...'
3) الإضحاك بالموقف:
يظهر هذا البعد في عدول ابن القارح عن وقاره و هيبته في مواقف عدّة كي يتحوّل إلى شيخ متصابي هدفه الأسمى إشباع الغرائز و الشّهوات يقول المعرّي في الرّسالة «و يقبِلُ على كلّ واحدة منهما يترشّف رضابها»[10]. ويقول أيضا «ويخطُرُ في نفسه، وهو ساجد، أنّ تلك الجارية، على حسنها ضاوية..»[11].
4) الإضحاك بالموقف المباشر:
وجدنا ابن القارح في الرّسالة في عدّة مواقف تثير الضّحك و الإضحاك، و المعرّي المتخفّي وراء حجاب الرّاوية يبدو وكأنّه مجرّد ناقل لأحداث ستقع، غير أنّه في بعض الأحيان يتخلّى عن وظيفة الرّواية ليتدخّل في السّرد مباشرة عبر جمل اعتراضيّة أو دعائيّة تصف ابن القارح بما لم يكنه و تلصق به من الصّفات ما لم يتّصف به فيصير هذا الدّعاء، و إن كان من مقتضيات الرّسالة الإخوانيّة، ضربا من العبث بابن القارح و التندّر به.
[1] عصفور، جابر: الصّورة الفنيّة في التراث النّقدي و البلاغيّ عند العرب،الدّار البيضاء،المغرب، المركز الثقافي العربي، ط3، 1992، ص13
[2] الرقيق عبد الوهاب و بن صالح هند، أدبيّة الرّحلة في رسالة الغفران، صفاقس- تونس، دار محمّد علي الحامّي، ط1،1999 ، ص63
[3] صليبا، جميل: المعجم الفلسفيّ، لبنان، دار الكتاب اللبناني، مصر دار الكتاب المصري، 1978، ص546.
[4] الرقيق عبد الوهاب و بن صالح هند، نفسه ص63.
[5] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، تح و شرح محمد عزّت نصر الله، بيروت-لبنان، المكتبة الثقافيّة، (د.ت) ص67
[6] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، نفسه ص 118.
[7] الغرسلّي، أحمد: استراتيجيّة الخطاب في رسالة الغفران (نحو مقاربة جديدة)، مجلّ الحياة الثقافيّة، تونس- س23. ع95- ماي 1998، ص 64.
[8] الغرسلّي، أحمد: نفسه، ص 65.
[9] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، نفسه ص 117.
[10] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، نفسه ص 116.
[11] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، نفسه ص 119.
منقول عن منتديات تونيزيا سات
مدخل:
حظي النصّ الغفراني بالدّراسة و التمحيص من قبل العديد من الباحثين مشرقا و مغربا و كلّ يدلي بدلوه، فاختلفت الآراء بخصوص هذا الأثر بين منكِر مستقبِحٍ و بين معجب مادح، كما اختلفت الآراء حول مؤلّف النصّ إن كان زنديقا مارقا أم إنّه مؤمن ساءته غرابة هذا الدين بين أهله فانبرى للدّفاع عنه، و لسنا نسعى في هذا العمل إلى استعراض مختلف هذه الآراء و إنّما حسبنا البحث في بعض القضايا المركزيّة التي نقدّر أنّ رهين المحبسين قد قصد إليها و بعض آليّات كتابة هذا النصّ و مكوّناته.
I الخيال و تجلّياته:
إنّ أوّل ما يجب التوقّف عنده و نحن ندرس رسالة الغفران ضمن الأدب أو علم الأدب هو ضرورة التدقيق في استعمال المصطلحات الأدبيّة تدقيقا يستوجبه العلم و يمنع عنّا الإستعمالات الخاطئة لها و من هذا المنطلق ارتأينا ضرورة التوقّف عند مصطلح خيال و ما يدور في فلكه من مصطلحات تشترك في نفس الجذر الثلاثي (خ،ي،ل) و لا تشترك في المعنى و هذه بعض التعريفات الأوّليّة لهذه المصطلحات:
يعرّف جابر عصفور هذا المصطلح'خيال' بقوله «يشير استخدامنا اللغوي المعاصر لكلمة (الخيال) إلى القدرة على تكوين صور ذهنيّة لأشياء غابت عن متناول الحسّ. و لا تنحصر فاعليّة هذه القدرة في مجرّد الإستعادة الآليّة لمدركات حسيّة ترتبط بزمان أو مكان بعينه، بل تمتدّ فاعليّتها إلى ما هو أبعد و أرحب من ذلك، فتعيد تشكيل المدركات، و تبني منها عالما متميّزا في جدّته و تركيبه، و تجمع بين الأشياء المتنافرة و العناصر المتباعدة في علاقات فريدة، تذيب التنافر و التّبـاعد، و تخلق الإنسجام و الوحدة. و من هذه الزاوية يظهر جانب القيمة الذي يصاحب كلمة 'الخيال' في المصطلح النقديّ المعاصر، و الـذي يتجلّي في القدرة على إيجـاد التنـاغم و التّوافق بين العناصر المتباعدة و المتنافرة داخل التجربة»[1].
أمّا مؤلّفا كتاب أدبيّة الرّحلة في رسالة الغفران فإنّهما يذهبان إلى أنّ «الخيال هو المعادل العربيّ لكلمة (image) الفرنسيّة... لذلك يطلق لفظ الخيال أخيرا على الصّورة الرّمزيّة (allégorie) التي تجسّم المعنى المجرّد تجسيما حسيّا واضحا كأن نصوّر عنف الموت بحاصدة الزّرع.. و التيه الرّوحيّ بسفينة في مهبّ العاصفة... و هنا تُستخدم المخيِّلة التشبيه و المجاز و الأسطورة و الرّمز»[2].
و يعرّفه جميل صليبا بقوله«الخيال الشّخص، و الطيف، و صورة تمثال الشيء في المرآة، و ما تشبّه لك في اليقظة و المنام من صور. و الخيال أيضا الظنّ و التوهّم و هو يدلّ في اصطلاحنا على الصّورة الباقية في النّفس بعد غيبة المحسوس عنها...»[3].
الحاصل من مختلف هذه التعريفات أنّ الخيال يمثّل صورة ترتسم في الذّهن لشيء حسّي غاب عن أنظارنا و حواسّنا فاستعدناه بالعقل أمّا التخيّل فهو «ملكة مصوّرة»[4]. فهو بمثابة الآلة المنتجة للخيال.
والقارئ للنصّ الغفراني يجد التخيّل قد طبع أغلب العناصر المكوّنة للنصّ فأخرجها في ثوب خيالي يخال معه أن الحدود بين الواقع و الخيال قد دكّت إلى غير رجعة و أنّ النصّ قطيعة معه مقصودة أرادها أبو العلاء و لهذا الرّأي ما يدعمه في النصّ بجميع مكوّناته و مستوياته:
1) الخيال و الأحداث:
طبع الخيال أغلب أحداث رسالة الغفران و الشواهد الدّالة على ذلك متعدّدة كرفّ الإوز الذي انقلب مجموعة من الجواري«و يمرّ رفٌّ من إوزّ الجنّة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الرّوضة و يقف وقوف منتظر لأمرٍ... فينتفضن، فيصرن جواريَ كواعبَ يرفلن في وشْيِ الجنّة، و بأيديهنّ المزاهر، و أنواع ما يلتمس به الملاهي»[5]. أو كمثل الجواري المكنونات في الثمار«فيأخذ سفرجلَةً أو رمّانة أو تفّاحة أو ما شاء الله من الثمار فيكسرها، فتخرج منها جاريةٌ حوْراءُ عيناءُ تبْرَقُ لحسنها حوريّات الجنان...»[6].فالناظر لمختلف هذه المقاطع الحدثيّة يلاحظ أن الأحداث فيها لم تتبع نظاما منطقيّا و إنّما كان التخيّل أساسيّا في تشكيل الأحداث تتابعا و تداعيا..
2) الخيال و الزّمان:
يمثّل الزمن عنصرا ضروريّا في النّصوص السرديّة بمختلف مرجعيّاتها «فالزّمن في الأحداث هو نظامها و نسق تواردها»[7].و يضيف أحمد الغرسلّي قائلا:«انتظمت الأحداث في سياقين مختلفين: سياق غيبيّ تجلَّى أسلوبيّا في أفعال وردت في المضارع صيغةً و تمحّضت دلالة للتعبير عن الزّمن المطلق... أمّا السّياق الثاني.. فهو السّياق الدّنيويّ هذا السّياق يندرج في مدار الإسترجاع الزّمني و ينفتح على أزمنة تاريخيّة»[8] و الزّمن في الرّسالة ضارب في التعتيم و الغموض ممّا منحه خاصّيته الخياليّة فهو زمن لاحق في أغلبه (الحشر، الجنّةّ، الجحيم) جامع في مستوي الشخصيّات السابق باللاحق كابن القارح(ق5هـ) بعنترة العبسي مثلا أو الشنفرى أو امرئ القيس (شخصيّات جاهليّة)..
3) الخيال و المكان:
ليس أمر المكان في رسالة الغفران بمختلف عن الزّمان أو الأحداث أو الشخصيّات -كما سنرى- فهو مكان مفارق للواقع و إن كانت له سندات و منطلقات مختلفة عقائديّة أو أدبيّة أو شعبيّة،و إذا كان الإستشراف عاملا من العوامل التي شكّلت حدود المكان فإنّ التخيّل هو الذي أسند له صورة خياليّة فجعل المكان بلا ضوابط حسّية و إنما تحدّده مجموعة من الثنائيّات كالأسفل و الأعلى أو الواسع و الضيّق أو المسوّر و المتمادي...
4) الخيال و الشّخصيّات:
إنّ سياسة التعويض تمثّل أسّا من الأسس التي ولدّت صورا خياليّة لمختلف الشّخصيّات في الرّسالة فأعاد الراوي تشكيلها و أخرجها من الصورة الواقعيّة التي انطبعت في الأذهان عنها إلى صورة مجازيّة رسمهـا بالتخيّل، متصوّرا مآلهـا في الـدار الباقية أو في الجحيم و يمكن أن نضرب مثـلا توفيق السّوداء و حمدونة يقول عنهما المعرّي:«أتدري من أنا يا عليّ بن منصور؟ فيقول : أنت من حور الجنان اللواتي خلقكن الله جزاء للمتّقين، و قال فيكنّ ﴿كأنّهنّ الياقوت و المرجان﴾ فتقول: أنا كذلك بإنعام العليّ العظيم على أنّي كنت في الدّار العاجلة أُعرف بحمدونة و أسكن في باب العراق بحلبَ و أبي صاحب رحًى، و تزوّجني رجل يبيع السّقَطَ فطلّقني لرائحة كرهها في فيَّ و كنت من أقبح نساءِ حَلَبَ، فلمَّا عرفتُ ذلك زهدت في الدّار الغرَّارة و توفَّرتُ على العِبادة، و أكلت من مغزلي و مردني فصيّرني ذلك إلى ما ترى»[9]. و ليس التعويض وحده هو الذي ألبس صورة الشّخصيّات حلّتها الخياليّة و انّما عمد المعرّي إلى نوادر الأبيات يتّخذ منها قاعدة للتخيّل كصورة صخر (جبل تشتعل النّار في رأسه).
و الحاصل من كلّ هذا أن التّخيّل كان عنصرا رئيسيّا في منح الأشياء و الأشخاص هيئات خياليّة خرجت بهم من حدود الواقع إلى باب الغريب و الخيال و العجيب.
II الإضحاك و السّخرية في النصّ الغفراني:
ليس من أحد ينكر على الأدب العربيّ القديم في شقّه النثريّ اشتمـاله على المضـاحيك و النّـوادر و النكت و بعابرة أشمل على الهزل بصفّة عامّة، و إذا ألقينا نظرة على مختلف هذا الأدب الهازل وجدنا قسما هاما منه مندرجا ضمن الأدب الجاد، كـأن لا تعارض بينهما فالمعنى و الفكرة تطرق بالجدّ كما تصاغ بالهزل، و إذا كانت رسالة الغفران في جوهرها متضمّنة لمسـائل تمسّ بالمعتقد و بقضايا الشّعر و المجتمع -و هي مسائل جدّ حسّاسة- فإنّ طريقة الطّرح قد لحقها الهزل، و هو هزل خصّ به المعرّي شخصيّة ابن القارح في مختلف أبعادها و مختلف تجلّياتها في النصّ.
1) الإضحاك بالهيأة و المشهد:
صوِّر المحشر في الرّسالة و كأنّه سوق غاصّة بالناس المتدافعين الرّاغبين في الخلاص من هذا الموقف بشتى الوسائل و الطرق، كما نجد ابن القارح و قد استغلّ الجارية التي وُهِبتْ له فإذا به يحمل فوق ظهرها زقّفونة فإذا ما تمّ له العبور فوق الصراط و قد استوثق من دخول الجنان كانت مفاجأة ضياع صكّ التوبة التي كادت تفقده صوابه لولا جذبة إبراهيم. أمّا في الجنّة فإنّ المجالس فيها خمريّة ينتهي بعضها بتراشق بالكؤوس، و إلى غير ذلك من المشاهد.
2) الإضحاك بالقول:
عمد المعرّي في الرّسالة إلى استعمال بعض الألفاظ الغريبة قصد اثارة العجب و الإضحاك و إذا تتبّعنا النصّ نجد حضورا لألفاظ عدّة ابتدعها المعريّ و لا حضور لها في القواميس كقوله مثلا 'جحجلول، زقفونة، الخيثعور، الشّيصبان...'
3) الإضحاك بالموقف:
يظهر هذا البعد في عدول ابن القارح عن وقاره و هيبته في مواقف عدّة كي يتحوّل إلى شيخ متصابي هدفه الأسمى إشباع الغرائز و الشّهوات يقول المعرّي في الرّسالة «و يقبِلُ على كلّ واحدة منهما يترشّف رضابها»[10]. ويقول أيضا «ويخطُرُ في نفسه، وهو ساجد، أنّ تلك الجارية، على حسنها ضاوية..»[11].
4) الإضحاك بالموقف المباشر:
وجدنا ابن القارح في الرّسالة في عدّة مواقف تثير الضّحك و الإضحاك، و المعرّي المتخفّي وراء حجاب الرّاوية يبدو وكأنّه مجرّد ناقل لأحداث ستقع، غير أنّه في بعض الأحيان يتخلّى عن وظيفة الرّواية ليتدخّل في السّرد مباشرة عبر جمل اعتراضيّة أو دعائيّة تصف ابن القارح بما لم يكنه و تلصق به من الصّفات ما لم يتّصف به فيصير هذا الدّعاء، و إن كان من مقتضيات الرّسالة الإخوانيّة، ضربا من العبث بابن القارح و التندّر به.
[1] عصفور، جابر: الصّورة الفنيّة في التراث النّقدي و البلاغيّ عند العرب،الدّار البيضاء،المغرب، المركز الثقافي العربي، ط3، 1992، ص13
[2] الرقيق عبد الوهاب و بن صالح هند، أدبيّة الرّحلة في رسالة الغفران، صفاقس- تونس، دار محمّد علي الحامّي، ط1،1999 ، ص63
[3] صليبا، جميل: المعجم الفلسفيّ، لبنان، دار الكتاب اللبناني، مصر دار الكتاب المصري، 1978، ص546.
[4] الرقيق عبد الوهاب و بن صالح هند، نفسه ص63.
[5] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، تح و شرح محمد عزّت نصر الله، بيروت-لبنان، المكتبة الثقافيّة، (د.ت) ص67
[6] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، نفسه ص 118.
[7] الغرسلّي، أحمد: استراتيجيّة الخطاب في رسالة الغفران (نحو مقاربة جديدة)، مجلّ الحياة الثقافيّة، تونس- س23. ع95- ماي 1998، ص 64.
[8] الغرسلّي، أحمد: نفسه، ص 65.
[9] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، نفسه ص 117.
[10] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، نفسه ص 116.
[11] المعرّي أبو العلاء، رسالة الغفران، نفسه ص 119.
منقول عن منتديات تونيزيا سات
مواضيع مماثلة
» الفن القصصي في رسالة الغفران
» الفن القصصي في رسالة الغفران ج2
» الفن القصصي في رسالة الغفران ج3
» الفن القصصي في رسالة الغفران ج4
» بعض القضايا المطروحة في رسالة الغفران:
» الفن القصصي في رسالة الغفران ج2
» الفن القصصي في رسالة الغفران ج3
» الفن القصصي في رسالة الغفران ج4
» بعض القضايا المطروحة في رسالة الغفران:
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت أكتوبر 01, 2016 1:29 pm من طرف صالح زيد
» بنية مقال تحليل النص
الجمعة مارس 18, 2016 6:47 pm من طرف lamine
» مارسيل خليفة من السالمية نت
الجمعة مارس 18, 2016 6:30 pm من طرف lamine
» الإحداث في "حدث أبو هريرة قال"
الإثنين أبريل 20, 2015 11:59 pm من طرف lamine
» النص و التأويل
الثلاثاء ديسمبر 16, 2014 2:54 am من طرف ssociologie
» نسبية الاخلاق
الخميس مايو 22, 2014 10:36 am من طرف besma makhlouf
» العربية في الباكالوريا
الخميس نوفمبر 14, 2013 12:57 am من طرف الأستاذ
» الفكر الأخلاقي المعاصر
الثلاثاء نوفمبر 05, 2013 11:39 am من طرف هاني
» محاورة الكراتيل
الإثنين يناير 07, 2013 11:10 pm من طرف بسمة السماء