بحـث
المواضيع الأخيرة
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 36 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 36 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 312 بتاريخ الإثنين مارس 13, 2023 10:44 am
الثقب الأسود الثاني: كيفية تحول المعلومات إلى معرفة وجيهة
صفحة 1 من اصل 1
الثقب الأسود الثاني: كيفية تحول المعلومات إلى معرفة وجيهة
الثقب الأسود الثاني: كيفية تحول المعلومات إلى معرفة وجيهة
ليست كثرة المعلومات هي المعرفة الوجيهة؛ وليست لهذه الأخيرة أية علاقة بالمبالغة في الترميز أو التعقيد. المعرفة الوجيهة هي تلك التي نتعرف من خلالها على القدرة على تنظيم المعلومات وتأطيرها ضمن سياقها، الذي يبقى أهم من المعلومات في حدِّ ذاتها. إننا نتلقى معلومات كثيرة من التلفزة، ولكننا لا نستفيد منها إلا إذا كان عمل رئيس التحرير متقنًا ومنظمًا واستطاع تأطير تلك المعلومات التأطيرَ الوجيه الذي يحولها من مجرد معلومات متفرقة حول الحدث إلى معرفة بالحدث. فإذا أخذنا، مثلاً، حالة النزاع في كوسوفو، فمن الواضح أنه لا يمكن لِمَن لا يستطيع استحضار الخلفية التاريخية للأحداث وتاريخ كوسوفو، وليس فقط جغرافيته، وعمق تأثير الإمبراطورية العثمانية، إلخ، أن يفهم شيئًا. ففي هذه الحالة – حالة غياب التأطير – تكون المعلومات مجرد أخبار متفرقة تهطل كالمطر، وليست لديك فرصة لتنظيمها والتحكم فيها. إن المعرفة الوجيهة هي التنظيم الملائم للمعلومات: فإذا كان تنظيم المعلومات جيدًا ومفتوحًا على المتغيرات، بحيث يستطاع إدماجُها، فإنه يولِّد معرفة جديدة ويكون قابلاً لإدماج المعطيات الجديدة واستيعابها. أما إذا كان التنظيم صارمًا ومغلقًا، كما هي حال التنظيمات السياسية، فإنه يتجاهل المعطيات التي لا يستوعبها أو لا يرغب فيها، مما يشكِّل خسارة لما تمَّ تجاهلُه.
إن مشكل تنظيم المعلومات مشكل عويص. وعوض أن يواجه تدريسُنا هذا المشكل، فإنه يتبنى منهاجًا يفصل بين الاختصاصات وبين المواد الدراسية، وبذلك، يُضعِف القدرة التي تكون للإنسان على وضع الأفكار في سياقها وتأطيرها التأطير المولِّد للمعنى. كان الشاعر ت.س. إليوت يردِّد عبارة جميلة يقول فيها: "أين المعرفة التي ضيَّعناها في المعلومات? وأين الحكمة التي ضيَّعناها في المعرفة?" والحكمة هنا هي فن استيعاب هذه المعارف وهضمها لتساعدنا في حياتنا الخاصة.
لنأخذ مثالاً آخر من أحد العلوم الإنسانية الأكثر دقة وتنظيمًا، وليكن علم الاقتصاد، – لأنه يقوم على الحساب، وهو علم دقيق، وتوجد جائزة نوبل للاقتصاد، إلخ، – ولنطرح السؤال التالي: لماذا يواجه هذا العلم الدقيق مشاكل في تنبؤاته وفي بناء نماذجه التفسيرية? لماذا لا يستطيع علماء الاقتصاد التنبؤ بما قد يحدث، فيتساوون في ذلك مع رجل الشارع، على الرغم من علمهم? طبعًا لأنه لا يمكن اختزال الاقتصاد إلى الحساب فقط. بل هناك الحاجات المتولدة في استمرار، وهناك الرغبات والأهواء والملذات، وهناك التخوفات والتوجسات – هذه العوامل كلها تجعل عالَم الاقتصاد عالَمًا معقدًا تتداخل فيه هذه العوامل، سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو مالية إلخ. فإذا كان علم الاقتصاد علمًا مغلقًا، لا يمكن أن تربطه علاقةٌ بباقي العلوم وبباقي مظاهر الحياة الاجتماعية؛ وبالتالي، فإنه سيجهل كلَّ ما لا يدخل في الحسبان وكلَّ ما لا يقبل الحساب. وما هذا الذي لا يُحسَب? طبعًا إنه الألم والعذاب والسعادة والشقاء والإنسانية والإبداع والحياة. نواجه، إذن، مشكلة حقيقية، لا يمكن أن نحلها إلا إذا تبنَّينا فكرًا علائقيًّا، فكرًا يفكر في العلاقات. إننا في حاجة إلى فكر يربط ويؤطِّر؛ إننا في حاجة إلى فكر يؤطِّر المعلومات ويضعها في سياقها، ويربط هذا السياق بأنظمته الكبرى التي تؤطِّر هذه المادة أو تلك – علمًا أن النظام العام الكبير اليوم ليس هو النظام الوطني، ولا حتى الجِهَوي، بل هو النظام الكوكبي. إن النظام العام هو النظام الأرضي بمعناه الأشمل.
إن كلَّ حدث كوكبي (عالمي) يؤثر على ما هو محلِّي تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر، كما أن الحدث المحلِّي يجد صداه على مستوى الكوكب الأرضي بأسره. إن هذا المعطى الأساس في عصرنا هو ما يعجز نظامُنا المعرفي والتربوي عن متابعته واستيعابه: فهو عاجز عن ربط المحلِّي بالكوني وبالكوكبي، وعن استخلاص النتائج التربوية لذلك. إنه لا يستطيع إدراك السياق الشمولي للمعطى المحلِّي أو الجِهَوي؛ كما أنه يعجز عن تبيُّن روابط الجزئي بالكلِّي. إن هذا العجز هو الثقب الأسود الذي يبتلع ويعدم كلَّ ما يمكن التوصل إليه بفضل هذا الربط وبفضل المعرفة الوجيهة التي تكون قادرة على تصور المشاكل الأساسية والشاملة في سياقها الكوكبي، بجميع أبعاده ودلالاته. وهذا هو أساس العمل الذي قمت به في عملي الذي أسميته المنهج La Méthode، حيث حاولت تطوير أدوات المعرفة التي تسمح بربط المعارف المفصولة بعضها عن بعض. وأكتفي هنا بمجرد الإشارة إليه لضيق الوقت
ليست كثرة المعلومات هي المعرفة الوجيهة؛ وليست لهذه الأخيرة أية علاقة بالمبالغة في الترميز أو التعقيد. المعرفة الوجيهة هي تلك التي نتعرف من خلالها على القدرة على تنظيم المعلومات وتأطيرها ضمن سياقها، الذي يبقى أهم من المعلومات في حدِّ ذاتها. إننا نتلقى معلومات كثيرة من التلفزة، ولكننا لا نستفيد منها إلا إذا كان عمل رئيس التحرير متقنًا ومنظمًا واستطاع تأطير تلك المعلومات التأطيرَ الوجيه الذي يحولها من مجرد معلومات متفرقة حول الحدث إلى معرفة بالحدث. فإذا أخذنا، مثلاً، حالة النزاع في كوسوفو، فمن الواضح أنه لا يمكن لِمَن لا يستطيع استحضار الخلفية التاريخية للأحداث وتاريخ كوسوفو، وليس فقط جغرافيته، وعمق تأثير الإمبراطورية العثمانية، إلخ، أن يفهم شيئًا. ففي هذه الحالة – حالة غياب التأطير – تكون المعلومات مجرد أخبار متفرقة تهطل كالمطر، وليست لديك فرصة لتنظيمها والتحكم فيها. إن المعرفة الوجيهة هي التنظيم الملائم للمعلومات: فإذا كان تنظيم المعلومات جيدًا ومفتوحًا على المتغيرات، بحيث يستطاع إدماجُها، فإنه يولِّد معرفة جديدة ويكون قابلاً لإدماج المعطيات الجديدة واستيعابها. أما إذا كان التنظيم صارمًا ومغلقًا، كما هي حال التنظيمات السياسية، فإنه يتجاهل المعطيات التي لا يستوعبها أو لا يرغب فيها، مما يشكِّل خسارة لما تمَّ تجاهلُه.
إن مشكل تنظيم المعلومات مشكل عويص. وعوض أن يواجه تدريسُنا هذا المشكل، فإنه يتبنى منهاجًا يفصل بين الاختصاصات وبين المواد الدراسية، وبذلك، يُضعِف القدرة التي تكون للإنسان على وضع الأفكار في سياقها وتأطيرها التأطير المولِّد للمعنى. كان الشاعر ت.س. إليوت يردِّد عبارة جميلة يقول فيها: "أين المعرفة التي ضيَّعناها في المعلومات? وأين الحكمة التي ضيَّعناها في المعرفة?" والحكمة هنا هي فن استيعاب هذه المعارف وهضمها لتساعدنا في حياتنا الخاصة.
لنأخذ مثالاً آخر من أحد العلوم الإنسانية الأكثر دقة وتنظيمًا، وليكن علم الاقتصاد، – لأنه يقوم على الحساب، وهو علم دقيق، وتوجد جائزة نوبل للاقتصاد، إلخ، – ولنطرح السؤال التالي: لماذا يواجه هذا العلم الدقيق مشاكل في تنبؤاته وفي بناء نماذجه التفسيرية? لماذا لا يستطيع علماء الاقتصاد التنبؤ بما قد يحدث، فيتساوون في ذلك مع رجل الشارع، على الرغم من علمهم? طبعًا لأنه لا يمكن اختزال الاقتصاد إلى الحساب فقط. بل هناك الحاجات المتولدة في استمرار، وهناك الرغبات والأهواء والملذات، وهناك التخوفات والتوجسات – هذه العوامل كلها تجعل عالَم الاقتصاد عالَمًا معقدًا تتداخل فيه هذه العوامل، سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو مالية إلخ. فإذا كان علم الاقتصاد علمًا مغلقًا، لا يمكن أن تربطه علاقةٌ بباقي العلوم وبباقي مظاهر الحياة الاجتماعية؛ وبالتالي، فإنه سيجهل كلَّ ما لا يدخل في الحسبان وكلَّ ما لا يقبل الحساب. وما هذا الذي لا يُحسَب? طبعًا إنه الألم والعذاب والسعادة والشقاء والإنسانية والإبداع والحياة. نواجه، إذن، مشكلة حقيقية، لا يمكن أن نحلها إلا إذا تبنَّينا فكرًا علائقيًّا، فكرًا يفكر في العلاقات. إننا في حاجة إلى فكر يربط ويؤطِّر؛ إننا في حاجة إلى فكر يؤطِّر المعلومات ويضعها في سياقها، ويربط هذا السياق بأنظمته الكبرى التي تؤطِّر هذه المادة أو تلك – علمًا أن النظام العام الكبير اليوم ليس هو النظام الوطني، ولا حتى الجِهَوي، بل هو النظام الكوكبي. إن النظام العام هو النظام الأرضي بمعناه الأشمل.
إن كلَّ حدث كوكبي (عالمي) يؤثر على ما هو محلِّي تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر، كما أن الحدث المحلِّي يجد صداه على مستوى الكوكب الأرضي بأسره. إن هذا المعطى الأساس في عصرنا هو ما يعجز نظامُنا المعرفي والتربوي عن متابعته واستيعابه: فهو عاجز عن ربط المحلِّي بالكوني وبالكوكبي، وعن استخلاص النتائج التربوية لذلك. إنه لا يستطيع إدراك السياق الشمولي للمعطى المحلِّي أو الجِهَوي؛ كما أنه يعجز عن تبيُّن روابط الجزئي بالكلِّي. إن هذا العجز هو الثقب الأسود الذي يبتلع ويعدم كلَّ ما يمكن التوصل إليه بفضل هذا الربط وبفضل المعرفة الوجيهة التي تكون قادرة على تصور المشاكل الأساسية والشاملة في سياقها الكوكبي، بجميع أبعاده ودلالاته. وهذا هو أساس العمل الذي قمت به في عملي الذي أسميته المنهج La Méthode، حيث حاولت تطوير أدوات المعرفة التي تسمح بربط المعارف المفصولة بعضها عن بعض. وأكتفي هنا بمجرد الإشارة إليه لضيق الوقت
مواضيع مماثلة
» الثقب الأسود السادس: تدريس الكوكبي
» الثقب الأسود الثالث: الشرط الإنساني، تلك القارة المنسية
» الثقب الأسود الرابع: ضرورة السير على طُرُق الفهم والتفاهم
» الثقب الأسود الأخير – أخلاقيات المركَّب الثلاثي: الفرد والمجتمع والنوع البشري
» الثقب الأسود الخامس: ندرِّس اليقين ولا ندرِّس اللايقين والمحتمَل والمفاجئ
» الثقب الأسود الثالث: الشرط الإنساني، تلك القارة المنسية
» الثقب الأسود الرابع: ضرورة السير على طُرُق الفهم والتفاهم
» الثقب الأسود الأخير – أخلاقيات المركَّب الثلاثي: الفرد والمجتمع والنوع البشري
» الثقب الأسود الخامس: ندرِّس اليقين ولا ندرِّس اللايقين والمحتمَل والمفاجئ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت أكتوبر 01, 2016 1:29 pm من طرف صالح زيد
» بنية مقال تحليل النص
الجمعة مارس 18, 2016 6:47 pm من طرف lamine
» مارسيل خليفة من السالمية نت
الجمعة مارس 18, 2016 6:30 pm من طرف lamine
» الإحداث في "حدث أبو هريرة قال"
الإثنين أبريل 20, 2015 11:59 pm من طرف lamine
» النص و التأويل
الثلاثاء ديسمبر 16, 2014 2:54 am من طرف ssociologie
» نسبية الاخلاق
الخميس مايو 22, 2014 10:36 am من طرف besma makhlouf
» العربية في الباكالوريا
الخميس نوفمبر 14, 2013 12:57 am من طرف الأستاذ
» الفكر الأخلاقي المعاصر
الثلاثاء نوفمبر 05, 2013 11:39 am من طرف هاني
» محاورة الكراتيل
الإثنين يناير 07, 2013 11:10 pm من طرف بسمة السماء