بحـث
المواضيع الأخيرة
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 57 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 57 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 312 بتاريخ الإثنين مارس 13, 2023 10:44 am
سبعة ثقوب معرفية سوداء
صفحة 1 من اصل 1
سبعة ثقوب معرفية سوداء
سبعة ثقوب معرفية سوداء
نقد الأساس المعرفي للمنظومة التربوية الحالية
إدغار موران
تقديم وترجمة: محمد زرنين
تقديم:
نقدِّم -فيما يلي- ترجمةً للنصِّ الكامل للمحاضرة التي ألقاها عالم الاجتماع الفرنسي المرموق إدغار موران في الرباط، بدعوة من وزارة التربية الوطنية والشباب، بتاريخ 6/2/2004.
إن صيغة المحاضرة عادةً ما تُلزِم الباحث بتبنِّي نظام في العرض يتوخى الوضوح والعمومية في معالجة قضايا غالبًا ما تكون معقدة وتستند إلى تفاصيل يصعب على غير المتتبِّع لعمل الباحث أو المفكر أن يحيط بها و/أو يستحضر خلفيتها.
وتشكِّل محاضرة إدغار موران نموذجًا لهذا التمرين ال�يداغوجي [=التربوي] والفكري الذي يلخص مسار حياة كاملة، استغرقها النضالُ من أجل مستقبل أفضل، والبحث النظري والميداني، والتأمل الفلسفي في القضايا الكبرى للوجود الإنساني. وتأتي فائدة هذه المحاضرة من كونها تقدِّم المعالم الكبرى للمشروع التربوي الذي يدافع عنه إدغار موران، منذ سنوات، استنادًا إلى نتائج وتراكمات مسار طويل في البحث والتفكير والنضال من أجل مستقبل أفضل، يكون فيه الفهمُ والقرارُ في مستوى التعقيد الذي يحكم تداخُل المستويات والمرجعيات والآفاق.
ويوجِّه موران سهام نقده القوي إلى هندسات الإصلاح كلِّها، العاجزة عن إدراك مطالب التعقيد، المؤمنة بالنفعية، والناسية – أو المتناسية – للشرط الإنساني.
كما يظهر في هذه المحاضرة مدى أهمية – بل ضرورة – توفُّر رؤية شمولية لدى كلِّ مَن يطمح إلى إصلاح المنظومة التربوية، وكذلك مدى خطورة أصحاب النظرة التجزيئية والتقنية المحض إلى قضايا التربية والتعليم.
نص المحاضرة
سأركِّز في هذه المحاضرة على أحد أهم الإصلاحات التي يفرضها إشكالُ التربية والتعليم الذي يتطلب، بدوره، العديد من الإصلاحات. إن أهم تحدٍّ يواجه المسؤولين هو ذاك الذي يخص اختيار مضامين التربية ومعارفها، أو بالأصح، المعارف الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها كلُّ تربية.
وأنطلق من ملاحظة أنه يتم تعليم المواد الدراسية والاختصاصات disciplines مفصولةً بعضها عن بعض. ولهذا الفصل تاريخ طويل أدى إلى إيجاد "ثقوب معرفية سوداء" حقيقية في مجال المعرفة، مما أعاق تقدمها، وجعل إصلاح المنظومة التربوية شبه متعذر، ما لم يتم التعرف إلى هذه الثقوب المعرفية السوداء.
وقد تعرفت، شخصيًّا، إلى سبعة ثقوب سوداء في النظام التربوي الحالي. وبناءً على هذا التعرف، أحاول إيجاد روابط بين الاختصاصات لإنقاذ ما تبتلعه هذه الثقوب السوداء. وفي هذا السياق، أقترح إيجاد سبعة كراسي تعمل على تحقيق هذا الهدف، وعلى نشر المعارف السبع الضرورية التي من شأنها استرجاع ما يضيع في تلك الثقوب.
وأذكِّر، بهذه المناسبة، أن مهمة الجامعة هي مهمة جامعة للاختصاصات، مهمة تجعل منها المؤسَّسة التي تعترف بتراث الماضي وتحاول إدماج الإبداعات الثقافية للحاضر وفتحها على المستقبل؛ ويعني هذا أيضًا أنه لا يمكن للجامعة أن تكون مجرد مؤسَّسة تتكيف مع محيطها الحاضر والحالي، فتكتفي بتأهيل المتخصِّصين أو المهنيين، بل هي مطالَبة بأن تحمي الثقافة وبأن تحملها في أحشائها وتصون مطلبَها الشمولي.
وليست الثقافة هي مختلف المعارف التي تكون لنا حول مختلف المجالات وحسب، بل هي المعارف التي ندمجها في حياتنا اليومية لمواجهة رهانات الحياة الفردية والجماعية، السياسية والاجتماعية. كتب روسو في كتابه التربوي الشهير إميل أو في التربية: "أن يحيا، هذه هي المهنة التي أريد تعليمها له" – قاصدًا تلميذه. طبعًا، لا يمكن أن نعلِّم التلميذ كيف يحيا حياةً مصطنعة، بل ينبغي له أن يطور قدراتِه الخاصة التي تسمح له بإدماج ما يتعلَّمه في حياته؛ مما يعني أن علاقة المتعلِّم بمادة التعلم تتطلب دائمًا علاقة إبداعية أصيلة. ولكن لنتوقف الآن عند هذه الثقوب السوداء في مجال المعرفة ولنتبيَّن أمرها.
الثقب الأسود الأول: ما تجب معرفته وعدم نسيانه بخصوص كلِّ معرفة
نعلِّم المعارف، ولكننا لا نجيب عن السؤال الأساس: ما المعرفة? ولا يتم الاهتمام بهذا السؤال إلا داخل اختصاص فلسفي نخبوي يسمى الإ�ستمولوجيا. كما لا يتم الانتباه إلى أن هذا المشكل – مشكل تعريف المعرفة – هو مشكل الجميع، ومشكل كلِّ واحد، في الآن نفسه. لماذا?
لأن مشكل المعرفة هو في الأساس مشكل الخطأ والوهم. هناك جملة شهيرة لماركس يقول فيها: "إن الناس لا يعرفون ما هم عليه من أحوال ولا ما يفعلون." وهي جملة لا تَصدُق على عموم الناس فقط، بل تَصدُق حتى على ماركس نفسه! فهو لم يكن يعرف ماذا كان يفعل عندما كان ينجز أعماله. ولكن هذه الملاحظة تَصدُق علينا نحن أيضًا: فعندما نفكر في الماضي ونتأمله بنوع من التباعد، نجده عبارة عن سلسلة من الأخطاء والأوهام. وعندما نفكر في الماضي القريب، نتذكر الأهوال: النازية، الفاشية، الشيوعية، الستالينية، والليبرالية الجديدة؛ نكتشف أخطاء هذه المنظومات وأوهامها، على الرغم من أنها كانت تعاش كحقائق أكيدة. إن ما كان في الماضي حقيقةً أضحى في الحاضر خطأ أو وهمًا. وهكذا نستمر في اكتشاف أخطاء الماضي دون توقف. لماذا?
لأن المعرفة الأبسط هي معرفة ترجع، في المآل، إلى الإدراك الذي يبقى دائمًا إدراكًا محدودًا. إذ ليست المعرفة أبدًا تلك الصورة المطابقة تمامًا لموضوعها؛ فهي لا تتطابق وواقعها تمام التطابُق. إنها إدراك لبعض المنبِّهات والمثيرات الحسية التي تُعاد ترجمتُها ومعالجتُها عن طريق آلاف الخلايا البصرية التي تنقل هذه المعطيات إلى الدماغ عن طريق بالغة التعقيد، تتحول عِبْرها تلك المعطياتُ إلى إدراك. وهي عملية مازالت موضوع أبحاث جارية للكشف عن أسرارها.
فعل المعرفة هو، إذن، ترجمة معينة لواقع خارجي وإعادة بناء له. وهو فعل نقوم به تلقائيًّا من خلال ما يُسمَّى بظاهرة "الثبات الإدراكي". وهذه تعني أن الأشخاص الحاضرين والجالسين في آخر القاعة هم أصغر حجمًا في شبكية عيني من الأشخاص الجالسين بجانبي؛ ومع ذلك، فإنني لا أتصور أصدقائي الجالسين في الصفوف الأمامية عمالقة والأصدقاء الجالسين في الصفوف الخلفية أقزامًا! فأنا أعرف أن كلَّ الحاضرين لهم الحجم نفسه تقريبًا. إن سيرورة الثبات الإدراكي هي التي تضمن إمكانية إعادة البناء التي نقوم بها في عملية الإدراك.
ونعرف، من جهة ثانية، أنه لا يوجد حدٌّ فاصل بين الإدراك، من جهة أولى، والهلوسة أو التهيؤات، من جهة ثانية؛ لا يوجد أي حدٍّ فاصل يُظهِر لنا الفرق بين الإدراك والتهيؤ. إن أصدقاءنا هم عادةً مَن ينبهوننا إلى ما نقع فيه من لَبْس. في عبارة أخرى، مادام لا يوجد اختلاف جوهري بين الإدراك وبين التهيؤ والوهم، فإننا نبقى معرَّضين لاحتمال اعتبارنا ما قد يشبَّه لنا على أنه الواقع، في حين أنه مجرد توهم. إن الوهم يتربص بنا في إدراكاتنا كلِّها، بما فيها تلك الإدراكات التي نعتبرها الأكثر مباشرة والتصاقًا بالواقع الفعلي.
في هذا السياق، سأحكي لكم عن حادثة شخصية، سبق لي أن كتبت عنها في أحد كتبي. ذات يوم، وجدت نفسي في أحد مفترقات الطرق في الوضعية التالية: تغير اللون المنظِّم للمرور، وشاهدت، في تزامن مع ذلك، سيارة تصدم راكب دراجة هوائية. بالنسبة لي، لم تحترم السيارة الإشارة المنظِّمة للمرور، في حين كان لصاحب الدراجة الهوائية الحق في المرور. فسارعت إلى مساعدة راكب الدراجة وإلى توبيخ سائق السيارة، فإذا براكب الدراجة يقول لي: "إني أنا الذي لم أحترم إشارة المرور!" لماذا أخطأت? لأنه كان من المنطقي، بالنسبة لي، أن يصدم الكبيرُ الصغيرَ وأن يكون الصغير هو الضحية الدائمة للكبير.
تقودنا هذه الحادثة إلى طرح مشكل الشهادة، وبالتالي، إلى طرح سؤال المعرفة. إنكم تعرفون أن الشهود يجدون دائمًا صعوبة بالغة في الشهادة بخصوص الحدث نفسه، على الرغم من أنهم جميعًا شاهدوه. ولكن، هل شاهدوه بالطريقة نفسها، ومن الزاوية عينها? هناك كتاب هام لمؤرخ إنكليزي يدعى نورتون كرو بعنوان في الشهادة، يتناول فيه وقائع الحرب العالمية الأولى، حيث يُظهِر أن الأحداث نفسها التي كان يعيشها الجنود نفسهم كانت تُدرَك بطُرُق مختلفة. لهذا علينا أن نحترس من إدراكاتنا وأن نعي حدود منظورنا. فإذا اقتنعنا بأن الأفكار والنظريات والتصورات هي ترجمات وتأويلات، فإننا، في هذه اللحظة، نعترف بأننا نواجه مشكلاً كبيرًا، هو ميلنا "الطبيعي" إلى الوهم؛ وهو ميل يطوِّقنا من كلِّ صوب ويهددنا تهديدًا مستمرًّا، على الرغم من محاولتنا التخلص منه. لهذا ينبغي أن نربي أنفسنا على التعامل مع فخاخ المعرفة، وأن نتعلم غربلة ومراجعة التأثيرات الثقافية التي تمارسها علينا المدرسة والعائلة بخصوص أفكار تظهر بديهية، كفكرة المجتمع والطبقة والفئة والأسرة إلخ. علينا، عمومًا، أن نتعلم التحكم أيضًا في التأثير الذي تمارسه هذه الأفكار على الأذهان التي تعتقد بها اعتقادًا مطلقًا. ولحسن الحظ، توجد دائمًا، في جميع المجتمعات، عقول ترفض هذه البداهة المفروضة أو المألوفة. ولكن، على الرغم من حسن الحظ هذا، يبقى خطرُ اليقين النهائي يهدِّد، مع ذلك، سيرورة المعرفة بإيقافها أو إنهائها. وهنا، نواجه مهمة أساسية: ضرورة تنسيب relativiser معرفتنا، وتعميم تدريس هذا التنسيب.
وعلينا الانطلاق من الإقرار بأن الأفكار ليست مجرد أدوات يستخدمها الإنسان لمعرفة الواقع؛ فنحن أيضًا يمكن لنا أن نصبح أدوات لأفكارنا. نحن نجد في مختلف الديانات الآلهةَ حاضرةً في قوة حضورًا فعليًّا، على الرغم من أنها – أنثرو�ولوجيًّا وسوسيولوجيًّا ونفسيًّا – مجرد أفكار إنسانية. فللآلهة سلطان عظيم على البشر، يجعلها تطلب منهم الطاعة والموت والقتل من أجلها. يتعلق الأمر هنا بظاهرة التملك الفكري أو الاستحواذ. وتَصدُق الملاحظةُ نفسها على الإيديولوجيات الكبرى: فهي أيضًا تطلب الموت من أجل الأفكار الكبرى. لهذا ينبغي لنا، تربويًّا، تدريس كيفية إقامة علاقة حوار بيننا وبين أفكارنا (التأمل الانعكاسي). لا يمكن لنا أن نمنع الأفكار من أن تتملَّكنا وتستحوذ علينا، ولكن يمكن لنا، نحن أيضًا، أن نراقب هذه الأفكار التي تراقبنا. لهذا السبب ينبغي لتدريس الحذر أن يشكِّل أولوية، ليس في التدريس الجامعي وحسب، بل منذ السنوات الأولى للتعليم الأولي. نعم، ثمة ضرورة لتدريس كيفية مواجهة خطر الوهم والخطأ في كلِّ عملية إنتاج للمعرفة وتحصيلها، دون أن يعني ذلك ضمان النجاح ضمانًا مطلقًا في ذلك. ولكن يمكن لنا، مع ذلك، تكوين مناعة ضد هذا التوجه نحو الوهم – وهي مهمة يمكن لها أن تكون أساسية.
نقد الأساس المعرفي للمنظومة التربوية الحالية
إدغار موران
تقديم وترجمة: محمد زرنين
تقديم:
نقدِّم -فيما يلي- ترجمةً للنصِّ الكامل للمحاضرة التي ألقاها عالم الاجتماع الفرنسي المرموق إدغار موران في الرباط، بدعوة من وزارة التربية الوطنية والشباب، بتاريخ 6/2/2004.
إن صيغة المحاضرة عادةً ما تُلزِم الباحث بتبنِّي نظام في العرض يتوخى الوضوح والعمومية في معالجة قضايا غالبًا ما تكون معقدة وتستند إلى تفاصيل يصعب على غير المتتبِّع لعمل الباحث أو المفكر أن يحيط بها و/أو يستحضر خلفيتها.
وتشكِّل محاضرة إدغار موران نموذجًا لهذا التمرين ال�يداغوجي [=التربوي] والفكري الذي يلخص مسار حياة كاملة، استغرقها النضالُ من أجل مستقبل أفضل، والبحث النظري والميداني، والتأمل الفلسفي في القضايا الكبرى للوجود الإنساني. وتأتي فائدة هذه المحاضرة من كونها تقدِّم المعالم الكبرى للمشروع التربوي الذي يدافع عنه إدغار موران، منذ سنوات، استنادًا إلى نتائج وتراكمات مسار طويل في البحث والتفكير والنضال من أجل مستقبل أفضل، يكون فيه الفهمُ والقرارُ في مستوى التعقيد الذي يحكم تداخُل المستويات والمرجعيات والآفاق.
ويوجِّه موران سهام نقده القوي إلى هندسات الإصلاح كلِّها، العاجزة عن إدراك مطالب التعقيد، المؤمنة بالنفعية، والناسية – أو المتناسية – للشرط الإنساني.
كما يظهر في هذه المحاضرة مدى أهمية – بل ضرورة – توفُّر رؤية شمولية لدى كلِّ مَن يطمح إلى إصلاح المنظومة التربوية، وكذلك مدى خطورة أصحاب النظرة التجزيئية والتقنية المحض إلى قضايا التربية والتعليم.
نص المحاضرة
سأركِّز في هذه المحاضرة على أحد أهم الإصلاحات التي يفرضها إشكالُ التربية والتعليم الذي يتطلب، بدوره، العديد من الإصلاحات. إن أهم تحدٍّ يواجه المسؤولين هو ذاك الذي يخص اختيار مضامين التربية ومعارفها، أو بالأصح، المعارف الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها كلُّ تربية.
وأنطلق من ملاحظة أنه يتم تعليم المواد الدراسية والاختصاصات disciplines مفصولةً بعضها عن بعض. ولهذا الفصل تاريخ طويل أدى إلى إيجاد "ثقوب معرفية سوداء" حقيقية في مجال المعرفة، مما أعاق تقدمها، وجعل إصلاح المنظومة التربوية شبه متعذر، ما لم يتم التعرف إلى هذه الثقوب المعرفية السوداء.
وقد تعرفت، شخصيًّا، إلى سبعة ثقوب سوداء في النظام التربوي الحالي. وبناءً على هذا التعرف، أحاول إيجاد روابط بين الاختصاصات لإنقاذ ما تبتلعه هذه الثقوب السوداء. وفي هذا السياق، أقترح إيجاد سبعة كراسي تعمل على تحقيق هذا الهدف، وعلى نشر المعارف السبع الضرورية التي من شأنها استرجاع ما يضيع في تلك الثقوب.
وأذكِّر، بهذه المناسبة، أن مهمة الجامعة هي مهمة جامعة للاختصاصات، مهمة تجعل منها المؤسَّسة التي تعترف بتراث الماضي وتحاول إدماج الإبداعات الثقافية للحاضر وفتحها على المستقبل؛ ويعني هذا أيضًا أنه لا يمكن للجامعة أن تكون مجرد مؤسَّسة تتكيف مع محيطها الحاضر والحالي، فتكتفي بتأهيل المتخصِّصين أو المهنيين، بل هي مطالَبة بأن تحمي الثقافة وبأن تحملها في أحشائها وتصون مطلبَها الشمولي.
وليست الثقافة هي مختلف المعارف التي تكون لنا حول مختلف المجالات وحسب، بل هي المعارف التي ندمجها في حياتنا اليومية لمواجهة رهانات الحياة الفردية والجماعية، السياسية والاجتماعية. كتب روسو في كتابه التربوي الشهير إميل أو في التربية: "أن يحيا، هذه هي المهنة التي أريد تعليمها له" – قاصدًا تلميذه. طبعًا، لا يمكن أن نعلِّم التلميذ كيف يحيا حياةً مصطنعة، بل ينبغي له أن يطور قدراتِه الخاصة التي تسمح له بإدماج ما يتعلَّمه في حياته؛ مما يعني أن علاقة المتعلِّم بمادة التعلم تتطلب دائمًا علاقة إبداعية أصيلة. ولكن لنتوقف الآن عند هذه الثقوب السوداء في مجال المعرفة ولنتبيَّن أمرها.
الثقب الأسود الأول: ما تجب معرفته وعدم نسيانه بخصوص كلِّ معرفة
نعلِّم المعارف، ولكننا لا نجيب عن السؤال الأساس: ما المعرفة? ولا يتم الاهتمام بهذا السؤال إلا داخل اختصاص فلسفي نخبوي يسمى الإ�ستمولوجيا. كما لا يتم الانتباه إلى أن هذا المشكل – مشكل تعريف المعرفة – هو مشكل الجميع، ومشكل كلِّ واحد، في الآن نفسه. لماذا?
لأن مشكل المعرفة هو في الأساس مشكل الخطأ والوهم. هناك جملة شهيرة لماركس يقول فيها: "إن الناس لا يعرفون ما هم عليه من أحوال ولا ما يفعلون." وهي جملة لا تَصدُق على عموم الناس فقط، بل تَصدُق حتى على ماركس نفسه! فهو لم يكن يعرف ماذا كان يفعل عندما كان ينجز أعماله. ولكن هذه الملاحظة تَصدُق علينا نحن أيضًا: فعندما نفكر في الماضي ونتأمله بنوع من التباعد، نجده عبارة عن سلسلة من الأخطاء والأوهام. وعندما نفكر في الماضي القريب، نتذكر الأهوال: النازية، الفاشية، الشيوعية، الستالينية، والليبرالية الجديدة؛ نكتشف أخطاء هذه المنظومات وأوهامها، على الرغم من أنها كانت تعاش كحقائق أكيدة. إن ما كان في الماضي حقيقةً أضحى في الحاضر خطأ أو وهمًا. وهكذا نستمر في اكتشاف أخطاء الماضي دون توقف. لماذا?
لأن المعرفة الأبسط هي معرفة ترجع، في المآل، إلى الإدراك الذي يبقى دائمًا إدراكًا محدودًا. إذ ليست المعرفة أبدًا تلك الصورة المطابقة تمامًا لموضوعها؛ فهي لا تتطابق وواقعها تمام التطابُق. إنها إدراك لبعض المنبِّهات والمثيرات الحسية التي تُعاد ترجمتُها ومعالجتُها عن طريق آلاف الخلايا البصرية التي تنقل هذه المعطيات إلى الدماغ عن طريق بالغة التعقيد، تتحول عِبْرها تلك المعطياتُ إلى إدراك. وهي عملية مازالت موضوع أبحاث جارية للكشف عن أسرارها.
فعل المعرفة هو، إذن، ترجمة معينة لواقع خارجي وإعادة بناء له. وهو فعل نقوم به تلقائيًّا من خلال ما يُسمَّى بظاهرة "الثبات الإدراكي". وهذه تعني أن الأشخاص الحاضرين والجالسين في آخر القاعة هم أصغر حجمًا في شبكية عيني من الأشخاص الجالسين بجانبي؛ ومع ذلك، فإنني لا أتصور أصدقائي الجالسين في الصفوف الأمامية عمالقة والأصدقاء الجالسين في الصفوف الخلفية أقزامًا! فأنا أعرف أن كلَّ الحاضرين لهم الحجم نفسه تقريبًا. إن سيرورة الثبات الإدراكي هي التي تضمن إمكانية إعادة البناء التي نقوم بها في عملية الإدراك.
ونعرف، من جهة ثانية، أنه لا يوجد حدٌّ فاصل بين الإدراك، من جهة أولى، والهلوسة أو التهيؤات، من جهة ثانية؛ لا يوجد أي حدٍّ فاصل يُظهِر لنا الفرق بين الإدراك والتهيؤ. إن أصدقاءنا هم عادةً مَن ينبهوننا إلى ما نقع فيه من لَبْس. في عبارة أخرى، مادام لا يوجد اختلاف جوهري بين الإدراك وبين التهيؤ والوهم، فإننا نبقى معرَّضين لاحتمال اعتبارنا ما قد يشبَّه لنا على أنه الواقع، في حين أنه مجرد توهم. إن الوهم يتربص بنا في إدراكاتنا كلِّها، بما فيها تلك الإدراكات التي نعتبرها الأكثر مباشرة والتصاقًا بالواقع الفعلي.
في هذا السياق، سأحكي لكم عن حادثة شخصية، سبق لي أن كتبت عنها في أحد كتبي. ذات يوم، وجدت نفسي في أحد مفترقات الطرق في الوضعية التالية: تغير اللون المنظِّم للمرور، وشاهدت، في تزامن مع ذلك، سيارة تصدم راكب دراجة هوائية. بالنسبة لي، لم تحترم السيارة الإشارة المنظِّمة للمرور، في حين كان لصاحب الدراجة الهوائية الحق في المرور. فسارعت إلى مساعدة راكب الدراجة وإلى توبيخ سائق السيارة، فإذا براكب الدراجة يقول لي: "إني أنا الذي لم أحترم إشارة المرور!" لماذا أخطأت? لأنه كان من المنطقي، بالنسبة لي، أن يصدم الكبيرُ الصغيرَ وأن يكون الصغير هو الضحية الدائمة للكبير.
تقودنا هذه الحادثة إلى طرح مشكل الشهادة، وبالتالي، إلى طرح سؤال المعرفة. إنكم تعرفون أن الشهود يجدون دائمًا صعوبة بالغة في الشهادة بخصوص الحدث نفسه، على الرغم من أنهم جميعًا شاهدوه. ولكن، هل شاهدوه بالطريقة نفسها، ومن الزاوية عينها? هناك كتاب هام لمؤرخ إنكليزي يدعى نورتون كرو بعنوان في الشهادة، يتناول فيه وقائع الحرب العالمية الأولى، حيث يُظهِر أن الأحداث نفسها التي كان يعيشها الجنود نفسهم كانت تُدرَك بطُرُق مختلفة. لهذا علينا أن نحترس من إدراكاتنا وأن نعي حدود منظورنا. فإذا اقتنعنا بأن الأفكار والنظريات والتصورات هي ترجمات وتأويلات، فإننا، في هذه اللحظة، نعترف بأننا نواجه مشكلاً كبيرًا، هو ميلنا "الطبيعي" إلى الوهم؛ وهو ميل يطوِّقنا من كلِّ صوب ويهددنا تهديدًا مستمرًّا، على الرغم من محاولتنا التخلص منه. لهذا ينبغي أن نربي أنفسنا على التعامل مع فخاخ المعرفة، وأن نتعلم غربلة ومراجعة التأثيرات الثقافية التي تمارسها علينا المدرسة والعائلة بخصوص أفكار تظهر بديهية، كفكرة المجتمع والطبقة والفئة والأسرة إلخ. علينا، عمومًا، أن نتعلم التحكم أيضًا في التأثير الذي تمارسه هذه الأفكار على الأذهان التي تعتقد بها اعتقادًا مطلقًا. ولحسن الحظ، توجد دائمًا، في جميع المجتمعات، عقول ترفض هذه البداهة المفروضة أو المألوفة. ولكن، على الرغم من حسن الحظ هذا، يبقى خطرُ اليقين النهائي يهدِّد، مع ذلك، سيرورة المعرفة بإيقافها أو إنهائها. وهنا، نواجه مهمة أساسية: ضرورة تنسيب relativiser معرفتنا، وتعميم تدريس هذا التنسيب.
وعلينا الانطلاق من الإقرار بأن الأفكار ليست مجرد أدوات يستخدمها الإنسان لمعرفة الواقع؛ فنحن أيضًا يمكن لنا أن نصبح أدوات لأفكارنا. نحن نجد في مختلف الديانات الآلهةَ حاضرةً في قوة حضورًا فعليًّا، على الرغم من أنها – أنثرو�ولوجيًّا وسوسيولوجيًّا ونفسيًّا – مجرد أفكار إنسانية. فللآلهة سلطان عظيم على البشر، يجعلها تطلب منهم الطاعة والموت والقتل من أجلها. يتعلق الأمر هنا بظاهرة التملك الفكري أو الاستحواذ. وتَصدُق الملاحظةُ نفسها على الإيديولوجيات الكبرى: فهي أيضًا تطلب الموت من أجل الأفكار الكبرى. لهذا ينبغي لنا، تربويًّا، تدريس كيفية إقامة علاقة حوار بيننا وبين أفكارنا (التأمل الانعكاسي). لا يمكن لنا أن نمنع الأفكار من أن تتملَّكنا وتستحوذ علينا، ولكن يمكن لنا، نحن أيضًا، أن نراقب هذه الأفكار التي تراقبنا. لهذا السبب ينبغي لتدريس الحذر أن يشكِّل أولوية، ليس في التدريس الجامعي وحسب، بل منذ السنوات الأولى للتعليم الأولي. نعم، ثمة ضرورة لتدريس كيفية مواجهة خطر الوهم والخطأ في كلِّ عملية إنتاج للمعرفة وتحصيلها، دون أن يعني ذلك ضمان النجاح ضمانًا مطلقًا في ذلك. ولكن يمكن لنا، مع ذلك، تكوين مناعة ضد هذا التوجه نحو الوهم – وهي مهمة يمكن لها أن تكون أساسية.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت أكتوبر 01, 2016 1:29 pm من طرف صالح زيد
» بنية مقال تحليل النص
الجمعة مارس 18, 2016 6:47 pm من طرف lamine
» مارسيل خليفة من السالمية نت
الجمعة مارس 18, 2016 6:30 pm من طرف lamine
» الإحداث في "حدث أبو هريرة قال"
الإثنين أبريل 20, 2015 11:59 pm من طرف lamine
» النص و التأويل
الثلاثاء ديسمبر 16, 2014 2:54 am من طرف ssociologie
» نسبية الاخلاق
الخميس مايو 22, 2014 10:36 am من طرف besma makhlouf
» العربية في الباكالوريا
الخميس نوفمبر 14, 2013 12:57 am من طرف الأستاذ
» الفكر الأخلاقي المعاصر
الثلاثاء نوفمبر 05, 2013 11:39 am من طرف هاني
» محاورة الكراتيل
الإثنين يناير 07, 2013 11:10 pm من طرف بسمة السماء