بحـث
المواضيع الأخيرة
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 50 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 50 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 312 بتاريخ الإثنين مارس 13, 2023 10:44 am
التحول أو السقوط في الهاوية؟
صفحة 1 من اصل 1
التحول أو السقوط في الهاوية؟
مقابلة مع إدغار موران Edgar Morin
التحول أو السقوط في الهاوية؟
جان فرانسوا دورتييJean-François Dortier
القسم: مقالات
ترجمة: محمد صدام
عن الأوان
هل يجب أن نصدّق إدغار موران عندما يتنبّأ بالأسوأ، كأمر محتمل، و بالتحوّل كأمر ممكن؟ إنّ زيارته لنا في مكاتب مجلّة "العلوم الإنسانية" كانت بالنسبة لنا فرصة لإعادة طرح جدل قديم حول نظرية التعقيد والمسار الطائش للتاريخ الإنساني.
حلّ إدغار موران بمدينة "أوسار" Auxerre يوم الخميس 11 ديسمبر 2008 لإلقاء محاضرة عنوانها " الهوّة أو التحوّل". لم يكن ذلك محض صدفة، لأنّ هذا اليوم يوافق بالتحديد موعد الحفل الصغير الذي أقمناه في مكاتب المجلة بمناسبة صدور العدد رقم 200.
إ. موران عندنا كاتب مفضّل، فقد صدر عدد المجلة الأول في نوفمبر 1990 مخصّصا له. وكان "فكر التعقيد"، بالنسبة لمؤسّس مجلة العلوم الإنسانية، أحد منابع الإلهام الأساسية. فالدَّيْن الفكريّ تجاهه جدير بالتذكير. إنّ إدراك فكر التعقيد يمثّل رسالة انفتاح وتعدّدية ولكن أيضا طموحا كي لا نتراجع عن التفكير في الإنسان - في شموليته - في زمن تميّز بنهاية العهد الذهبيّ للعلوم الإنسانية.
يضاف إلى ذلك موروث فكريّ هائل، إذ سبق لموران أن فتح للدور الخلاق للخيال مجالات كاملة، من العلوم الإنسانية إلى سوسيولوجيا ثقافة الجماهير، مرورا بالانتروبولوجيا وهي أساسية لـ"إيكولوجيا الأفكار" التي نادى بها.
اختلافات
ثمّ افترقت سبلنا. فالتعدّد المناهجيّ أصبح في أواسط التسعينات يشكّل العقيدة الرسمية للمؤسّسات العلمية. فهو لم يعد يظهر كمشروع ثوريّ، بل أصبح يقتصر غالبا على تطابق تحاليل متخصّصة. وماذا عن التعقيد؟ كان يبدو لي أنه بصدد فقدان قوّته مع مرور الزمن؛ فالإنتاج الغزير لموران – كتب، مقالات، محاضرات – كان يبدو لي أنه يخفي نقيصة جوهرية. فهل يكون التعقيد "مفتاحا فكريا لكلّ شيء"، يريد فتح كلّ الأبواب، غير أنه عاجز عن فتح أيّ باب؟ صحيح أنّ العالم معقد، وكلّ فرد معقّد، والدماغ أو العقل معقّد، والمجتمع معقّد، والواقع معقد، الخ... ينطبق التعقيد على الكلّ، من الكون إلى الإنسان، لكنه لا يفسّر أيّ شيء بدقّة ولا يفضي إلى أيّ اكتشاف هامّ.
ثم إنّ الحقبة لم تعد تستكين لليقينيات بل للشك. ومن ثمّة أضاعت فكرة التعقيد البعض من شحنتها النقدية. بل يبدو أنها خلطت بين الأوراق وزادت في الغموض أكثر مما أنارت العالم الذي ادّعت تفسيره.
في تلك الفترة، أتذكّر أني كنت أرسلت رسالة مطوّلة إلى إ. موران ( الذي كان يشكو من إقصائه من أعمدة مجلة العلوم الإنسانية ) أطرح له فيها شكوكي وخلافاتي. وكان ردّه بأنها اتهامات باطلة. « الواقع البسيط يتطلّب فكرا بسيطا، وتعقّد الظواهر يتطلّب فكرا معقّدا. هناك اكتشافات علمية ترتكز بالتأكيد على افتراض الوحدة والبساطة. غير أنّه، كي نفهم الظواهر البيئية والبيولوجية وديناميات التاريخ، لا أمل لنا في العثور على قوانين بسيطة. فالتعقيد هو وحدة البسيط والمعقّد». ثم أضاف « إنّ إسهامي لا يتمثل في ملاحظة التعقيد في كلّ شيء، بل في القول بأنّ التعقيد يشكّل تحدّيا للمعرفة. هذا التحدّي هو الذي أردت أن أرفعه ببلورة بعض الأدوات المفاهيمية عبر مسيرة أعمالي حول المنهج -La Méthode. في كل جزء من هذه الأعمال الملموسة (سوسيولوجيا الحاضر أو مقالاتي أو نصوصي السياسية) أردت أن أرفع ذاك التحدي. " أما في ما يتعلق بالتعدد المناهجي * pluridisciplinarité، فقد أزاح نقدي بضربة مفهومية مباشرة : « أنا لم أدعُ إلى "بينمناهجية" * interdisciplinarité وهي فكرة صالحة، إلا أنها عادية جدا، أنا أدافع عن "عبرمناهجية" * transdisciplinarité وهي فكرة مختلفة عن السابقة."
ولم يلبث الجدل أن ساخ. فأين يكمن، في انتقاداتي، نصيب الوضوح ورغبة أو إرادة الاستقلال؟ لا أستطيع الجزم بأيّ شيء. فهكذا تسير الأمور: يتأكّد جيل الحرس الشباب ويتباهى بتحرّره من وصاية ثقيلة، أي "بالقضاء على الأب"، الأب المُعيل.
نكران الجميل، هو أيضا، جزء مكوِّن من حياة الأفكار. لقد تلت كل ذلك إذن بعض المشاحنات والتصالحات، فالمناوشات الصغيرة.
وكانت هناك في حقيقة الأمر حجرة عثرة أخرى في علاقاتنا. ذلك أنّ إدغار كان قد تقمّص منذ سنوات قليلة ثوب الحكيم العجوز عبر مؤلّفه :"سياسة الحضارة". لقد قاده فكر التعقيد إلى نظرة خلاصية وكارثية للمستقبل. وكانت هذه النظرة تبدو لي مستوحاة من هواجسه الشخصية أكثر منها من الملاحظة الموضوعية لسياق تطوّر الأشياء.
كارثية ؟
عندما دعوت إ. موران إلى إلقاء محاضرة في شهر سبتمبر اقترح عليَّ أن يكون موضوعها " التحوّل أو السقوط في الهاوية". فحاولت أن أثنيه عن عزمه: « هل أنت واثق من اختيارك يا إدغار؟ ألا يمكن أن تجد موضوعا آخر، أقلّ سوادا ومأسوية؟ أقلّ "إنجيلية من يوم القيامة"؟
كنا آنذاك في أواخر شهر أوت 2008، ثم تدافعت الأحداث فجأة. ففي منتصف سبتمبر اجتازت الأزمة المالية، التي كانت كامنة في الولايات المتحدة عبر أزمة الرهون العقارية، مرحلة دقيقة أشفت فيها العديد من المؤسسات المصرفية على حافة الهاوية. وبدأ انهيار البورصات المالية. ثم عمّت الأزمة المالية جملة الساحات الدولية، وكانت أعمق أزمة منذ 1929 والأولى التي هي بحقّ عالمية. لقد مكّن تدخل الدول والبنوك المركزية في أواسط أكتوبر من تفادي الأسوأ، غير أنّ موجة تلك الصدمة ستنتقل إلى الاقتصاد الحقيقي. ومن هنا كان انطلاق تلك الدورة الاقتصادية المنحرفة: إفلاس المؤسسات، بطالة، ركود اقتصادي، الخ.
وفي غضون أيام قليلة تمكّنت الأزمة كذلك من العقول، وانهارت الثقة في المستقبل فجأة. وعملت الأزمة الأخلاقية بدورها على تقسيط الاستهلاك والاستثمار، وتضخيم تلك الظاهرة المخيفة. فطفا شبح الفوضى على السطح. وقد جاءت هذه الأزمة لتنضاف إلى سيناريو كارثي آخر، متمثل في أزمة بيئية كبرى أصبحت تقلق البال.
هناك إذن أزمة ايكولوجية وأزمة اقتصادية وربّما أزمة اجتماعية وسياسية... والتوجّس من كوارث كبرى، فردية وجماعية، تمكّن منا جميعا. فالفوضى ممكنة، بل هي محتملة. وفجأة نجد أنّ السؤال الذي طرحه إدغار – "هل نحن نسير نحو الهاوية؟" يأخذ معنى جديدا، معنى ملموسا جدا.
ثم كان مساء يوم 4 نوفمبر 2008 وانتخاب باراك أوباما. تعاطف العالم أجمع مع الحدث. الملايين من الناس - مندهشين، متأثرين والدموع في عيونهم - سمعوا مباشرة في التلفزة أو الإنترنيت الخطاب الذي ألقاه في شيكاغو. فكأنما تواصل العالم أجمع مع ذاته وكأنما تصالح الكوكب الأرضي، في ذلك المساء، مع نفسه، مفصحا عن مولد أمل جديد.
"التحوّل"، تلك العبارة التي اقترحها إ.موران تجسّدت أيضا على حين غرّة. وأفضل من ذلك : إنّ الأزمة المالية ساعدت بكلّ مفارقة على انبثاق حدث ضعيف الاحتمال متمثلا في انتخاب مواطن أسود على رأس الولايات المتحدة الأمريكية.
» الهوّة أو التحوّل « الكلمتان اللتان جمعهما إدغار موران ظهرتا فجأة على غاية من الراهنية.
هذا ما تكلّم عنه خلال محاضرته نفس ذلك المساء. (تأتي) مخاطر الفوضى عندما تغذّي الأزمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بعضها البعض في دورات هدّامة. مؤكّدا»: نحن نتكلم عن "أزمة منهجية" عندما نصف انهيار البورصات، غير أننا يجب أن نتحلّى بفكر منهجي كي نستطيع فهمها "قال ذلك قبل أن يذكّر" أن الأزمة الاقتصادية في سنة 1929 ارتبطت بإهانة المهزومين في الحرب العالمية الأولى وتسبّبت في مجيء هتلر إلى الحكم بالطرق الديمقراطية. فالبربرية لم تصدر عن بلد متخلّف، بل عن بلد كان في تلك الحقبة القوّة الصناعية الأولى في أوروبا وكان البلد الأكثر تقدّما على المستوى الثقافي. "واكب إ. موران كلّ ذلك التاريخ. فهو رأى النور سنة 1921 وعرف التقلّبات التاريخية الكبرى - التي طبعت الساعات المظلمة للحرب العالمية الثانية - وشارك فيها. أما أطفال الانفجار السكاني فهُم، في المقابل، لم يعاصروا سوى فترة نموّ، قويّا كان أم ضعيفا، لكنها فترة بلا حروب ولا مآسٍ ولا كوارث؛ لذا تظلّ فكرة انهيار مفاجئ بعيدة عن التصديق، بل هي قد تبدو من قبيل التوقع الكارثي المبالغ فيه " catastrophisme " .
كذلك فكرة الـ"تحوّل"، على غرار انبثاق الفراشة منسلخة عن جسم الدودة، تبدو فكرة مستحيلة التصوّر على صعيد المجتمعات الإنسانية. والحال أنّ مثل تلك التحولات جارية بالفعل طوال التاريخ. في سنة 1947 نشر شاب يبلغ من العمر 26 سنة أوّل كتاب له – تحت عنوان "العام الصفر لألمانيا" – واصفا فيه ما ليس محتملا وقوعه، أي نهضة مجتمع ديمقراطي في نموّ، على أنقاض حرب ونظام بربريّ. كان هذا الشاب هو إ. موران.
لا يكفي تأثير المفعول الجيلي وحده لتفسير (بروز) نظرة للعالم. لذلك فإنّ فكرة "الهوّة والتحوّل" لدى موران ولدت أيضا من تخمين حول التاريخ الشامل، تخمين يدرج التاريخ الإنساني ضمن دينامكية أشمل تعود إلى بداية الكون وهي بداية شهدت انبثاق المادة والحياة والأشكال المتغيّرة والتحوّلات والانتشارات والانقراضات الكبرى.
في نفس ذلك المساء كنّا نتكلم بالتحديد عن ازدهار الحضارات التاريخية وأفولها، فقال لي:" لا تنس هذا يا جان- فرانسوا: إنّ التفكير في عالم اليوم لا يمكن أن يتحرّر من التفكير حول التاريخ الكوني. الفترات الهادئة التي تحمل الرخاء ليست سوى أقواس تفتح في التاريخ. كلّ الإمبراطوريات والحضارات ادّعت لنفسها الخلود – إمبراطوريات آسيا الصغرى ومصر والرومان والفرس والعثمانيين والمايا والأزتاك والأنكا ... جميعها اضمحلّت وغبرت.
هكذا هو التاريخ: انبثاق وانهيار (متجددان)، تداول بين فترات ساكنة وأخرى عاصفة، انشعابات، زوابع وانبثاقات غير متوقعة."
ثم أضاف في خاتمة محاضرته: " في بعض الأحيان تبرز داخل الفترات الحالكة بذور الأمل. أن نتدرب على التفكير بهذه الطريقة، تلك هي روح منهج التعقيد. "التحوّل أو السقوط في الهاوية. فماذا لو كان الرجل على حق؟
*اعتمدنا في ترجمة هذه المصطلحات على الترجمة التي وردت في موقع " معابر " لنص "أندريه بورغينيون " (De la pluridisciplinarité à la transdisciplinarité) – المترجم –
الكاتب : " جان – فرانسوا دورتيي " Jean-François Dortier مؤسس ومدير مجلة (العلوم الإنسانية).
نشر المقال بمجلة العلوم الإنسانية الفرنسية ( Sciences Humaines ) عدد 201 بتاريخ فيفري 2009
هذا القال منقول عن
http://philosophie69.malware-site.www/riwek21/archive/2009/3/820628.html
التحول أو السقوط في الهاوية؟
جان فرانسوا دورتييJean-François Dortier
القسم: مقالات
ترجمة: محمد صدام
عن الأوان
هل يجب أن نصدّق إدغار موران عندما يتنبّأ بالأسوأ، كأمر محتمل، و بالتحوّل كأمر ممكن؟ إنّ زيارته لنا في مكاتب مجلّة "العلوم الإنسانية" كانت بالنسبة لنا فرصة لإعادة طرح جدل قديم حول نظرية التعقيد والمسار الطائش للتاريخ الإنساني.
حلّ إدغار موران بمدينة "أوسار" Auxerre يوم الخميس 11 ديسمبر 2008 لإلقاء محاضرة عنوانها " الهوّة أو التحوّل". لم يكن ذلك محض صدفة، لأنّ هذا اليوم يوافق بالتحديد موعد الحفل الصغير الذي أقمناه في مكاتب المجلة بمناسبة صدور العدد رقم 200.
إ. موران عندنا كاتب مفضّل، فقد صدر عدد المجلة الأول في نوفمبر 1990 مخصّصا له. وكان "فكر التعقيد"، بالنسبة لمؤسّس مجلة العلوم الإنسانية، أحد منابع الإلهام الأساسية. فالدَّيْن الفكريّ تجاهه جدير بالتذكير. إنّ إدراك فكر التعقيد يمثّل رسالة انفتاح وتعدّدية ولكن أيضا طموحا كي لا نتراجع عن التفكير في الإنسان - في شموليته - في زمن تميّز بنهاية العهد الذهبيّ للعلوم الإنسانية.
يضاف إلى ذلك موروث فكريّ هائل، إذ سبق لموران أن فتح للدور الخلاق للخيال مجالات كاملة، من العلوم الإنسانية إلى سوسيولوجيا ثقافة الجماهير، مرورا بالانتروبولوجيا وهي أساسية لـ"إيكولوجيا الأفكار" التي نادى بها.
اختلافات
ثمّ افترقت سبلنا. فالتعدّد المناهجيّ أصبح في أواسط التسعينات يشكّل العقيدة الرسمية للمؤسّسات العلمية. فهو لم يعد يظهر كمشروع ثوريّ، بل أصبح يقتصر غالبا على تطابق تحاليل متخصّصة. وماذا عن التعقيد؟ كان يبدو لي أنه بصدد فقدان قوّته مع مرور الزمن؛ فالإنتاج الغزير لموران – كتب، مقالات، محاضرات – كان يبدو لي أنه يخفي نقيصة جوهرية. فهل يكون التعقيد "مفتاحا فكريا لكلّ شيء"، يريد فتح كلّ الأبواب، غير أنه عاجز عن فتح أيّ باب؟ صحيح أنّ العالم معقد، وكلّ فرد معقّد، والدماغ أو العقل معقّد، والمجتمع معقّد، والواقع معقد، الخ... ينطبق التعقيد على الكلّ، من الكون إلى الإنسان، لكنه لا يفسّر أيّ شيء بدقّة ولا يفضي إلى أيّ اكتشاف هامّ.
ثم إنّ الحقبة لم تعد تستكين لليقينيات بل للشك. ومن ثمّة أضاعت فكرة التعقيد البعض من شحنتها النقدية. بل يبدو أنها خلطت بين الأوراق وزادت في الغموض أكثر مما أنارت العالم الذي ادّعت تفسيره.
في تلك الفترة، أتذكّر أني كنت أرسلت رسالة مطوّلة إلى إ. موران ( الذي كان يشكو من إقصائه من أعمدة مجلة العلوم الإنسانية ) أطرح له فيها شكوكي وخلافاتي. وكان ردّه بأنها اتهامات باطلة. « الواقع البسيط يتطلّب فكرا بسيطا، وتعقّد الظواهر يتطلّب فكرا معقّدا. هناك اكتشافات علمية ترتكز بالتأكيد على افتراض الوحدة والبساطة. غير أنّه، كي نفهم الظواهر البيئية والبيولوجية وديناميات التاريخ، لا أمل لنا في العثور على قوانين بسيطة. فالتعقيد هو وحدة البسيط والمعقّد». ثم أضاف « إنّ إسهامي لا يتمثل في ملاحظة التعقيد في كلّ شيء، بل في القول بأنّ التعقيد يشكّل تحدّيا للمعرفة. هذا التحدّي هو الذي أردت أن أرفعه ببلورة بعض الأدوات المفاهيمية عبر مسيرة أعمالي حول المنهج -La Méthode. في كل جزء من هذه الأعمال الملموسة (سوسيولوجيا الحاضر أو مقالاتي أو نصوصي السياسية) أردت أن أرفع ذاك التحدي. " أما في ما يتعلق بالتعدد المناهجي * pluridisciplinarité، فقد أزاح نقدي بضربة مفهومية مباشرة : « أنا لم أدعُ إلى "بينمناهجية" * interdisciplinarité وهي فكرة صالحة، إلا أنها عادية جدا، أنا أدافع عن "عبرمناهجية" * transdisciplinarité وهي فكرة مختلفة عن السابقة."
ولم يلبث الجدل أن ساخ. فأين يكمن، في انتقاداتي، نصيب الوضوح ورغبة أو إرادة الاستقلال؟ لا أستطيع الجزم بأيّ شيء. فهكذا تسير الأمور: يتأكّد جيل الحرس الشباب ويتباهى بتحرّره من وصاية ثقيلة، أي "بالقضاء على الأب"، الأب المُعيل.
نكران الجميل، هو أيضا، جزء مكوِّن من حياة الأفكار. لقد تلت كل ذلك إذن بعض المشاحنات والتصالحات، فالمناوشات الصغيرة.
وكانت هناك في حقيقة الأمر حجرة عثرة أخرى في علاقاتنا. ذلك أنّ إدغار كان قد تقمّص منذ سنوات قليلة ثوب الحكيم العجوز عبر مؤلّفه :"سياسة الحضارة". لقد قاده فكر التعقيد إلى نظرة خلاصية وكارثية للمستقبل. وكانت هذه النظرة تبدو لي مستوحاة من هواجسه الشخصية أكثر منها من الملاحظة الموضوعية لسياق تطوّر الأشياء.
كارثية ؟
عندما دعوت إ. موران إلى إلقاء محاضرة في شهر سبتمبر اقترح عليَّ أن يكون موضوعها " التحوّل أو السقوط في الهاوية". فحاولت أن أثنيه عن عزمه: « هل أنت واثق من اختيارك يا إدغار؟ ألا يمكن أن تجد موضوعا آخر، أقلّ سوادا ومأسوية؟ أقلّ "إنجيلية من يوم القيامة"؟
كنا آنذاك في أواخر شهر أوت 2008، ثم تدافعت الأحداث فجأة. ففي منتصف سبتمبر اجتازت الأزمة المالية، التي كانت كامنة في الولايات المتحدة عبر أزمة الرهون العقارية، مرحلة دقيقة أشفت فيها العديد من المؤسسات المصرفية على حافة الهاوية. وبدأ انهيار البورصات المالية. ثم عمّت الأزمة المالية جملة الساحات الدولية، وكانت أعمق أزمة منذ 1929 والأولى التي هي بحقّ عالمية. لقد مكّن تدخل الدول والبنوك المركزية في أواسط أكتوبر من تفادي الأسوأ، غير أنّ موجة تلك الصدمة ستنتقل إلى الاقتصاد الحقيقي. ومن هنا كان انطلاق تلك الدورة الاقتصادية المنحرفة: إفلاس المؤسسات، بطالة، ركود اقتصادي، الخ.
وفي غضون أيام قليلة تمكّنت الأزمة كذلك من العقول، وانهارت الثقة في المستقبل فجأة. وعملت الأزمة الأخلاقية بدورها على تقسيط الاستهلاك والاستثمار، وتضخيم تلك الظاهرة المخيفة. فطفا شبح الفوضى على السطح. وقد جاءت هذه الأزمة لتنضاف إلى سيناريو كارثي آخر، متمثل في أزمة بيئية كبرى أصبحت تقلق البال.
هناك إذن أزمة ايكولوجية وأزمة اقتصادية وربّما أزمة اجتماعية وسياسية... والتوجّس من كوارث كبرى، فردية وجماعية، تمكّن منا جميعا. فالفوضى ممكنة، بل هي محتملة. وفجأة نجد أنّ السؤال الذي طرحه إدغار – "هل نحن نسير نحو الهاوية؟" يأخذ معنى جديدا، معنى ملموسا جدا.
ثم كان مساء يوم 4 نوفمبر 2008 وانتخاب باراك أوباما. تعاطف العالم أجمع مع الحدث. الملايين من الناس - مندهشين، متأثرين والدموع في عيونهم - سمعوا مباشرة في التلفزة أو الإنترنيت الخطاب الذي ألقاه في شيكاغو. فكأنما تواصل العالم أجمع مع ذاته وكأنما تصالح الكوكب الأرضي، في ذلك المساء، مع نفسه، مفصحا عن مولد أمل جديد.
"التحوّل"، تلك العبارة التي اقترحها إ.موران تجسّدت أيضا على حين غرّة. وأفضل من ذلك : إنّ الأزمة المالية ساعدت بكلّ مفارقة على انبثاق حدث ضعيف الاحتمال متمثلا في انتخاب مواطن أسود على رأس الولايات المتحدة الأمريكية.
» الهوّة أو التحوّل « الكلمتان اللتان جمعهما إدغار موران ظهرتا فجأة على غاية من الراهنية.
هذا ما تكلّم عنه خلال محاضرته نفس ذلك المساء. (تأتي) مخاطر الفوضى عندما تغذّي الأزمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بعضها البعض في دورات هدّامة. مؤكّدا»: نحن نتكلم عن "أزمة منهجية" عندما نصف انهيار البورصات، غير أننا يجب أن نتحلّى بفكر منهجي كي نستطيع فهمها "قال ذلك قبل أن يذكّر" أن الأزمة الاقتصادية في سنة 1929 ارتبطت بإهانة المهزومين في الحرب العالمية الأولى وتسبّبت في مجيء هتلر إلى الحكم بالطرق الديمقراطية. فالبربرية لم تصدر عن بلد متخلّف، بل عن بلد كان في تلك الحقبة القوّة الصناعية الأولى في أوروبا وكان البلد الأكثر تقدّما على المستوى الثقافي. "واكب إ. موران كلّ ذلك التاريخ. فهو رأى النور سنة 1921 وعرف التقلّبات التاريخية الكبرى - التي طبعت الساعات المظلمة للحرب العالمية الثانية - وشارك فيها. أما أطفال الانفجار السكاني فهُم، في المقابل، لم يعاصروا سوى فترة نموّ، قويّا كان أم ضعيفا، لكنها فترة بلا حروب ولا مآسٍ ولا كوارث؛ لذا تظلّ فكرة انهيار مفاجئ بعيدة عن التصديق، بل هي قد تبدو من قبيل التوقع الكارثي المبالغ فيه " catastrophisme " .
كذلك فكرة الـ"تحوّل"، على غرار انبثاق الفراشة منسلخة عن جسم الدودة، تبدو فكرة مستحيلة التصوّر على صعيد المجتمعات الإنسانية. والحال أنّ مثل تلك التحولات جارية بالفعل طوال التاريخ. في سنة 1947 نشر شاب يبلغ من العمر 26 سنة أوّل كتاب له – تحت عنوان "العام الصفر لألمانيا" – واصفا فيه ما ليس محتملا وقوعه، أي نهضة مجتمع ديمقراطي في نموّ، على أنقاض حرب ونظام بربريّ. كان هذا الشاب هو إ. موران.
لا يكفي تأثير المفعول الجيلي وحده لتفسير (بروز) نظرة للعالم. لذلك فإنّ فكرة "الهوّة والتحوّل" لدى موران ولدت أيضا من تخمين حول التاريخ الشامل، تخمين يدرج التاريخ الإنساني ضمن دينامكية أشمل تعود إلى بداية الكون وهي بداية شهدت انبثاق المادة والحياة والأشكال المتغيّرة والتحوّلات والانتشارات والانقراضات الكبرى.
في نفس ذلك المساء كنّا نتكلم بالتحديد عن ازدهار الحضارات التاريخية وأفولها، فقال لي:" لا تنس هذا يا جان- فرانسوا: إنّ التفكير في عالم اليوم لا يمكن أن يتحرّر من التفكير حول التاريخ الكوني. الفترات الهادئة التي تحمل الرخاء ليست سوى أقواس تفتح في التاريخ. كلّ الإمبراطوريات والحضارات ادّعت لنفسها الخلود – إمبراطوريات آسيا الصغرى ومصر والرومان والفرس والعثمانيين والمايا والأزتاك والأنكا ... جميعها اضمحلّت وغبرت.
هكذا هو التاريخ: انبثاق وانهيار (متجددان)، تداول بين فترات ساكنة وأخرى عاصفة، انشعابات، زوابع وانبثاقات غير متوقعة."
ثم أضاف في خاتمة محاضرته: " في بعض الأحيان تبرز داخل الفترات الحالكة بذور الأمل. أن نتدرب على التفكير بهذه الطريقة، تلك هي روح منهج التعقيد. "التحوّل أو السقوط في الهاوية. فماذا لو كان الرجل على حق؟
*اعتمدنا في ترجمة هذه المصطلحات على الترجمة التي وردت في موقع " معابر " لنص "أندريه بورغينيون " (De la pluridisciplinarité à la transdisciplinarité) – المترجم –
الكاتب : " جان – فرانسوا دورتيي " Jean-François Dortier مؤسس ومدير مجلة (العلوم الإنسانية).
نشر المقال بمجلة العلوم الإنسانية الفرنسية ( Sciences Humaines ) عدد 201 بتاريخ فيفري 2009
هذا القال منقول عن
http://philosophie69.malware-site.www/riwek21/archive/2009/3/820628.html
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت أكتوبر 01, 2016 1:29 pm من طرف صالح زيد
» بنية مقال تحليل النص
الجمعة مارس 18, 2016 6:47 pm من طرف lamine
» مارسيل خليفة من السالمية نت
الجمعة مارس 18, 2016 6:30 pm من طرف lamine
» الإحداث في "حدث أبو هريرة قال"
الإثنين أبريل 20, 2015 11:59 pm من طرف lamine
» النص و التأويل
الثلاثاء ديسمبر 16, 2014 2:54 am من طرف ssociologie
» نسبية الاخلاق
الخميس مايو 22, 2014 10:36 am من طرف besma makhlouf
» العربية في الباكالوريا
الخميس نوفمبر 14, 2013 12:57 am من طرف الأستاذ
» الفكر الأخلاقي المعاصر
الثلاثاء نوفمبر 05, 2013 11:39 am من طرف هاني
» محاورة الكراتيل
الإثنين يناير 07, 2013 11:10 pm من طرف بسمة السماء